في ظل تراجع أسعار النفط، والاضطرابات الأمنية الإقليمية، تبحث الدول الخليجية عن فرص اقتصادية جديدة. وفي شكل عام، يوصي الاقتصاديون بالتكامل الاقتصادي، لأن التخصص في الإنتاج، والتفاعل في أسواق أكبر، يفتحان أفقين من أهم مصادر الازدهار. وآمنت الحكومات الخليجية بهذه الرسالة منذ زمن طويل، إذ إنها أطلقت مشروعاً تكاملياً بعد إنشاء مجلس التعاون عام 1981، احتوى على منطقة تجارة حرة، ووحدة جمركية، وسوق مشتركة، ومستقبلاً، على عملة موحدة. وكان هناك دور مهم لإنجازات الاتحاد الأوروبي الاقتصادية قبل عام 2010، في إقناع الدول الخليجية بأهمية مثل هذه الخطوات. لكن دول مجلس التعاون واجهت صعوبة في تحقيق المكتسبات الكامنة بسبب عدم تفعيل المشاريع التكاملية في شكل صحيح. ويعود ذلك إلى عدم التزام الدول الست بالقوانين التي أقرها المجلس الأعلى خلال السنوات الماضية، لا سيما فترة ما بعد عام 2000، والتي شملت الوحدة الجمركية والسوق المشتركة.
ويفترَض أن يعامَل المواطن الخليجيي بالطريقة ذاتها في غالبية شؤونه الخاصة والتجارية والتعليمية وغيرها، في كل دول مجلس التعاون. لكن في الواقع، يعاني المواطنون من تمييز مفرط في مختلف المجالات، يقوم على منح المواطن المحلي أفضلية على الخليجيين الآخرين. ويعود ذلك جزئياً إلى تباطؤ في تنفيذ القرارات المتَّفق عليها، كما أنه يعكس أيضاً تعمّداً في عدم الالتزام، حينما تشعر دولة ما بأن ذلك يخدم مصلحتها، حتى ولو على حساب مصلحة الدول الخليجية الأخرى.
وبناءً على التجربة الأوروبية، يمكن معالجة هذه المشكلة نظرياً عن طريق منح المؤسسات الخليجية المركزية صلاحيات ملحوظة، فيحق للمفوضية الأوروبية أن تفرض غرامات على الحكومات الأعضاء التي لا تلتزم بالقواعد. لكن في الوقت الراهن، لا يشكل ذلك خطة واقعية، أساساً لأن في ظل أزمات الدَين اليوناني، والنازحين المتجهين إلى أوروبا، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبح المحللون يعتبرون مركزية المشروع الأوروبي ثغرة محورية، قد تتسبب في انهياره.
لكنْ، هناك حلّ آخر، بحثتُ فيه في ورقة علمية مع زميلتي غادة عبدالله، نُشرت أخيراً في دورية الأمانة العامة لدول مجلس التعاون، «التعاون». فقد تمكنت دول العالم من التعاون في مشاريع دولية عدة من دون الخضوع لأوامر مؤسسات مركزية قادرة على محاسبة من يخالف الاتفاقات. وعلى سبيل المثل، نجحت منظمة التجارة العالمية في مراقبة التعرفات الدولية، وإقناع دول عدة بإزالة الحواجز التجارية، من دون امتلاك أية صلاحيات ملحوظة، إذ إن دورها يعتبر مجرد تنسيقي، والتعاون بين الدول هو لا مركزي في الأساس. فكيف يمكن الاستفادة من مثل هذه الخبرة في حال مشاريع التكامل الاقتصادي لدى دول مجلس التعاون؟
تقوم المحاسبة اللامركزية على استغلال أهمية السمعة للعلاقات الدولية. فيجب إشعار من يخالف الاتفاق بأنه سيحرَم من مكتسبات مستقبلية كعقاب. وعلى سبيل المثل، حينما يقدّم صندوق النقد الدولي قرضاً لدولة ما تعاني أزمة، تُرفَق شروط مع القرض، تهدف إلى حماية مصلحة المجتمع الدولي، كجدول التسديد مثلاً، وإصلاحات داخلية تقلل احتمال أزمة مستقبلية. وفي حال عدم الوفاء، يرصد صندوق النقد ذلك ويعممه، ما يقلّص احتمال حصول الدولة المقترضة على أية مساعدات مستقبلية، سواء من الصندوق ذاته، أو في شكل ثنائي من الدول الأخرى. وتشجع هذه المنظومة اللامركزية الدول على الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي في معظم الحالات.
يذكر أن أهم عنصرين لمنظومة المحاسبة اللامركزية هما جمع معلومات عن مدى الالتزام في شكل موضوعي وشفاف، وتعميم تلك المعلومات كي يمكن محاسبة غير الملتزم.
وتقوم دول مجلس التعاون بالخطوة الأولى، إذ إن المؤسسات الخليجية المركزية تتميز بكوادر مخلصة ودؤوبة، ترصد المخالفات بموضوعية ودقة. لكن لربما التزاماً بالثقافة الخليجية التقليدية، لا تقوم بتعميم تلك المعلومات، إذ إن التقارير تتداول داخلياً فقط، وترفَع مباشرة إلى أصحاب القرار. ولا شك في أن رعاية الخصوصية تعتبر الطريقة الأفضل لإدارة القضايا الأمنية والعسكرية، التي تمثل أهم نشاطات تعاونية للدول الخليجية. لكن في حال المشاريع التكاملية الاقتصادية، قد يقلل عدم تعميم المخالفات من قدرة الدول الخليجية على حصد العائدات المتاحة.
ومن إيجابيات الشفافية في رصد الالتزام، أن تتأثر سمعة الدولة المخالفة عالمياً، لا فقط ضمن الدائرة الخليجية، ما يعزز قوة حافز الانضباط. فعلى سبيل المثل، بعد ما فعلته اليونان في الاتحاد الأوروبي، تضررت سمعتها أمام كل دول العالم، ما يقلل احتمال تكرار الأخطاء، بينما حينما تخالف دولة خليجية ما قانوناً خليجياً، لا تعلم إلا أعداد محدودة من الأشخاص، وبالتالي قد تستمر المخالفة بسهولة.
وفي الخلاصة، خدمت منــظومات دول مجلس التعاون مصلحتها لثلاثين سنة، إذ إنها حققت إنجازات ربما كانت غير متوقَّعة في مطلع المشروع. وعلى رغم ذلك، قد تنظر الآن في تحديث آليات العمل، خصوصاً في مجال التكامل الاقتصادي، لأن رجال الأعمال الخليجيين يحتاجون بإلحاح الى فوائد التعامل في اقتصاد ضخم.