في عام 2011، أجرت الإمارات تغييراً جذرياً في نظام الكفالة، حيث سمحت للعمالة من ذوي العقود التي على وشك الانتهاء تغيير الكفيل دون الحصول على موافقته. وأدركت الحكومة أهمية التعاون مع خبراء لتقويم نتائج التغيير. وبعد مرور خمس سنوات، ظهرت حالة تناظر بين ما حصل في الإمارات، وما تقوم به نقابات العمل، حيث برز تناقض بين مصالح «الذين ضمن الدائرة» (العمالة الوافدة المقيمون في الإمارات)، ومصالح «الذين خارج الدائرة» (العمالة الوافدة المحتملون الذين لم يصلوا إلى الإمارات بعد). وتؤكد البحوث التي أنجزها الخبراء أهمية الحذر حين تحديد قوانين أسواق العمل، فقد يكون هناك أثر عكسي لبعض السياسات.
تشكّل الهجرة الدولية موضوعاً حساساً، ممّا يحجب بعض وقائع سوق العمل الإماراتية الأساس. ففي فترة ما قبل اكتشاف النفط، اتصفت الإمارات بحالتي الفقر وقلة عدد السكان، وهما متوقعان في دولة ذات بيئة صحراوية. وتطلب اغتنام الفرص التي قدمها النفط (الذي يعتبَر إنجازاً ملحوظاً في ظل المآسي المنتشرة في بعض الدول الأخرى التي تتميز بثروات نفطية كبيرة) استيراد أعداد كبيرة من الأيدي العاملة، ففي الوقت الراهن، أصبح الوافدون يمثلون 85% من القوة العاملة في الإمارات.
ونتيجة لانفتاح أسواق العمل الإماراتية، تساهم الإمارات في تنمية الدول النامية اقتصادياً بشكل أقوى من ما تقوم به معظم الدول الثرية، ففي عام 2010، بلغت حصة الفرد لإجمالي التحويلات المالية الخارجية 1900 دولار في الإمارات (المرتبة الثامنة عالمياً)، مقارنة بمبلغ 355 دولاراً في أمريكا (المرتبة السادسة والثلاثون)، و335 دولاراً في المملكة المتحدة (المرتبة التاسعة والثلاثون). وكما يحصل في كل الدول المستوردة للأيدي العاملة، يستغل المجرومن بعض ثغرات أسواق العمل الإماراتية. ولكن نظراً إلى استمرار الحركة المتينة للمهاجرين نحو الإمارات، فلا شك أن في متوسط الحالات، يستفيد الوافد بشكل كبير من فرصة العمل في الإمارات، ممّا يطابق الصورة النابعة من إحصائيات التحويلات المالية الخارجية. وبالتالي، حينما أطلقت الإمارات الإصلاحات، كانت تمثّل محاولة تعديل نظام فعّال وناجح بشكل عام، وليست محاولة جبر نظام ضعيف.
وفي الفترة ما قبل عام 2011، في حالة انتهاء عقد وافد، كان يحق للكفيل منع العامل من أي خيار إلا العودة إلى دولته الأم، ممّا كان يجعل الكفيل مشترياً محتكراً لخدمات الأيدي العاملة. وقد تمّ تبني هذا النظام جزئياً لحماية المبالغ التي يستثمرها الكفيل في اختيار عامل مناسب، وفي بناء قدراته خلال سنتين من العمل. ولكن كثيراً من القوانين حُددت في الواقع بشكل عشوائي، مما دفع الإمارات إلى النظر في مجال تعزيز المرونة المتاحة للعمالة الوافدة. ففي عام 2011، منحت الحكومة الوافدين حق تغيير الكفيل دون تخويل، ممّا قلّل من أفضلية الكفلاء في سوق العمل.
وفي حالة إجراء تحليل بدائي حول تداعيات السياسة الجديدة، فإنه المحلل سيركّز على فئتين من أصحاب المصلحة: الشركات\المواطنون الإماراتيون، والوافدون. ولحسن الحظ، فقد تعاونت الحكومة الإماراتية مع فريق من اقتصاديين متفوقين، لأجل تقويم البرنامج بمهنية رفيعة.
وفي ورقة علمية بعنوان: “احتكار المشتري في أسواق عمل الوافدين: أدلّة من الإمارات”، التي ستُنشر في مجلة أكاديمية رئيسة، «مجلة الاقتصاد السياسي»، حرص المؤلفون سوريش نايدو (جامعة كولمبيا)، وياو نياركو (جامعة نيو يورك في أبوظبي)، وتشينج-يي وانج (جامعة بنسلفينيا) أن يميّزوا بين مجموعتين من الوافدين: أولئك الموجودون في الإمارات (الداخليون)، وأولئك الساعون للانتقال إلى الإمارات (الخارجيون).
ولقد اكتشف الباحثون أن الداخليين شهدوا ارتفاعاً بنسبة 10% في رواتبهم، نتيجة للتغيير الذي حصل في عام 2011، فضلاً عن ارتفاع في معدّل احتفاظ الكفالاء الأوليين بالعمالة. وكان يكعس التطور الثاني، الذي يبدو بأنه مخالف للمنطق، تطورين فرعيين.
أولاً: ارتفاع في معدل تغيير الكفيل، بسبب الحقوق الجديدة التي مُنحت للوافدين.
ثانياً: ارتفاع أكبر في معدّل تجديد الوافدين لعقودهم مع كفلائهم الأصليين، بدلاً عن العودة إلى دولتهم الأم.
بينما الخارجيون، فقد تضرروا من التغيير، إذ شهدوا تراجعاً في التوظيف، وفي رواتبهم حين الحصول على وظيفة لأوّل مرة. ويعود هذا التباين في التداعيات إلى استضعاف الكفلاء على حساب الوافدين الموجودين فقط، بينما حافظوا على الأفضلية في التعامل مع العمالة الذين يسعون للانتقال للإمارات. وبالتالي، وفق منظور العمالة الوافدة كلياً، ليس من الواضح إذا استفاد الوافدون أم لم يستفيدوا.
ويعتبَر مثل هذه الإزدواجية أمراً طبيعياً حين تحليل العديد من سياسات سوق العمل، وهناك أمثلة عدة تتعلق بالنقابات في الدول الثرية. وتحديداً، تسعى النقابات – التي تمثّل مصلحة من أصحاب الوظائف، وليس من يبحث عن وظيفة – إلى تعزيز مزايا العمل للعمالة، كتطبيق حدٍّ أدنى للأجور، وحظر التسريح، وإنشاء منظومات تقاعد مجزية. ويحتفل العمالة حين نجاح النقابة في الحصول على مثل هذه المزايا، لكنَّ العاطلين عن العمل يتضررون أحياناً، حيث تزداد عملية التوظيف كلفةً للشركات. وتجدر الإشارة إلى أن مختلف الدول الأوروبية، كإيطاليا وإسبانيا، تعاني من معدلات بطالة مرتفعة، برغم مزايا العمل المجزية.
وعودة إلى التجربة الإماراتية، فإن تقويم الانعكاسات للشركات والمستهلكين هو أمر صعب. فحتى لو ارتفعت أجور الوافدين، فارتفع أيضاً معدل الاستمرار مع الكفلاء الأصليين، فقد يعزّز ذلك معدل المهارات لدى العمالة، ومن ثمّ إنتاجية العمالة. فمن الصعب للغاية تقويم الأثر على أسعار وجودة السلع عموماً، بسبب تعدّدها، لكن ذلك يجب ألّا يقلّل من رغبة الحكومة للتعاون مع كبار الباحثين لأجل تحليل البيانات المتوفرة.
وفي جلسة مايو 2016 لـ «حوار أبو ظبي»، تناول الحاضرون بحث نياركو وزملائه، فضلاً عن مقترح لتعزيز المرونة. وشاركت مختلف المجموعات الممثّلة لمصالح العمالة الوافدة، منها منظمات حقوق الإنسان عالمية، ووزارات العمل لدى الدول المصدّرة للأيدي العاملة. ولقد استغربتُ من طرح وحماس تلك المجموعات لسياسات قد يكون لها أثر عكسيّ، أغلبها سياسات تتبع القالب الأوروبي، الذي يحتوي على المطالبة بمزيد من المزايا لأسباب أخلاقية (برغم تميّز الإمارات من ناحية تفاعلها الإيجابي مع الدول النامية)، دون الإشارة إلى احتمال تراجع عدد الوافدين المخوّل لهم الدخول للإمارات، في حالة فرض تلك المزايا على الشركات الإماراتية.
ولربما ترغب الدول النامية تحمّل هذه الخسارة نظراً للمكتسبات. وإنني لا أشكّ أن تلك المنظمات فعلاً تسعى لتمثيل مصلحة كل العمالة، وليس فقط المحظوظون الذين حصلوا على وظيفة؛ على عكس ما تقوم به النقابات. وتجدر الإشارة إلى أن النقاشات الثرية أكّدت أهمية إجراء بحوث رصينة، وجمع بيانات بدقة، حيث قال المؤرخ الأمريكي دانيل بورستين: “أكبر عدو للعلم ليس الجهل، بل إنه التوهّم بالعلم”.