تناقلت وسائل الإعلام حول العالم مع نهاية يوم الجمعة الماضي الموافق 11 نوفمبر 2016، الخبر الذي تصدر معظم النشرات الاقتصادية حول العالم والمتعلق بالقيمة الإجمالية لمبيعات موقع علي بابا الصيني «www.alibaba.com» والتي بلغت 17.3 مليار دولار في مدة زمنية قياسية وذلك خلال 24 ساعة فقط. وعلى الرغم من حجم المفاجأة لتلك المبيعات التي وصلت لهذا الرّقم الفلكي، إذا ما قورن بمبيعات الأسواق التقليدية حول العالم، إلا أن ما أبلغ من الأرباح هو المنظومة التي تقوم عليها هذه الشركة والتكلفة التشغيلية المنخفضة التي تعمل عليها. وقبل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع، تجدر الإشارة إلى أن قيمة هذه المبيعات تعادل مبيعات النفط المنتج في جميع دول مجلس التعاون الخليجي لمدة شهر واحد تقريباً بالقيمة السوقية الحالية لبرميل النفط!!

كيف يمكن شرح هذا الإنجاز غير المسبوق وتحليله من منظور علمي يتناسب مع القدرة الفكرية العامة، دون الانتقاص من المنظومة المعرفية المعقدة التي تقوم عليها الاقتصادات الحديثة. ولا سيما بأن الصين تعتبر من أكبر دول العالم التي ساهمت في خلق الصناعات القائمة على المعرفة مع دخولها معترك القطاع الصناعي من خلال الشركات الأهلية التي تنتج الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية منذ الثمانينات من القرن الماضي.

الاقتصاد القائم على المعرفة
لو حاول البعض معرفة التكلفة التقديرية لإقامة مشروع تجاري لإنشاء مصنع تقليدي متوسط الحجم «20-50 عاملاً» لإنتاج سلعة استهلاكية، أياً كانت هذه السلعة، فإن الميزانية المطلوبة لهذا المشروع ستكون بلا ريب أضعاف الميزانية المطلوبة لتنفيذ مشروع قائم على المعرفة، مثل شركة علي بابا أو شركات أخرى استطاعت السيطرة على الأسواق العالمية في مجالات تقليدية ولكن من خلال منظومة معرفية متقدمة، مثل شركة أوبر «www.uber.com» التي توفر خدمة سيارات الأجرة حول العالم دون أن تمتلك سيارة واحدة، حيث تبلغ قيمة شركة أوبر في السوق أكثر من 60 مليار دولار، مما يجعلها أغلى من العديد من الشركات العالمية مثل فورد وجنرال موتورز للسيارات. وتعتمد أوبر على برامج للكمبيوتر لتنظيم مواعيد السيارات المطلوبة لخدمة الأجرة في جميع بقاع العالم. أي أن الشركة لا تحتاج إلى أية موارد تقليدية تستهلك الميزانيات العالية، رغم حجم الأرباح الخيالية التي تجنيها الشركات القائمة على المعرفة.

الهيمنة الصينية الصامتة وإزعاجات الكاوبوي
استطاعت الصين خلال العقود القليلة الماضية من تحويل اقتصادها الضعيف، والمستوى الاجتماعي المتدني لمعظم مدنها وقراها، إلى الاقتصاد الأول على مستوى العالم من خلال تبني خطط استراتيجية متقدمة، تعتمد على التقنيات العالية والمعرفة الرّقمية، لتحويل اقتصادها الخامل إلى بؤرة من النشاط الذي نشر الحماس التجاري حول العالم. ولا يخفى على أحد بأن معظم المنتجات العالمية اليوم تختم جميعها بختم «صنع في الصين»، بغض النظر عن ماهية المنتجات أو العلامة التجارية التي تحملها، أو اسم الشركات التي تمتلكها، فإنها ستكون مختومة تقريباً بنفس الختم. وقد راهنت الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة على النظام السياسي الصيني بأنه لن يستطيع الصمود أمام «الحلم الأمريكي» المغلّف بالديمقراطية الغربية، باستخدام القوة الناعمة الهوليوودية للترويج للثقافة الرأسمالية. ولكن من الواضح جداً بأن كل الاستثمارات التي ضختها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة وحتى بداية القرن الحادي والعشرين قد ذهبت سدى، بسبب الرهانات السياسية الخاسرة التي غامرت الإدارتان الأخيرتان، جورج بوش الإبن والرئيس أوباما، بالدخول فيها.

اقتصاد المعرفة والسياسة
السؤال الذي من المهم إجابته هنا يتمحور حول أمر أساسي، أرى بأنه سوف يتحكم في مستقبل الدول وقدراتها على ضمان استقرارها في المستقبل. وهذا الأمر يتعلق بالقدرة على تحديد الإجابة المثالية للسؤال التالي: هل تحررت مشاريع التنمية الاقتصادية من سطوة الأنظمة السياسية الحاكمة؟

لو بحثنا عن إجابة هذا السؤال قبل ثلاثة عقود لكانت الإجابة بديهية وسهلة، ففي تلك الحقبة الزمنية كانت التنمية الاقتصادية جزء أصيل من ممتلكات الأنظمة الحاكمة. وكانت هذه العلاقة الوثيقة هي السر في نجاح بعض الدول، وفشل البعض الآخر، حسب مرونة أنظمتها السياسية وقدرتها على تجاوز الخطوط الحمراء المتعلقة بالمفهوم الضيّق لأمنها الوطني. أما إجابة هذا السؤال الآن فإنه يحتاج إلى دراسة النموذج الصيني لمشاريع التنمية الاقتصادية، للوصول إلى الحقيقة المهمة التي يجب على دولنا دراستها ومحاولة تبني مخرجاتها للحصول على أفضل الفرص لتنفيذ المشاريع التنموية التي تم وضع الخطط الاستراتيجية طويلة المدى لتحقيقها.

إن الهيمنة الاقتصادية الصينية سوف تحول العالم خلال العقود القليلة القادمة إلى عالم مختلف تماماً عما نعرفه أو نعيشه الآن. هذه الحقيقة التي يجب أن تفرد لها المؤسسات الفكرية والمعاهد البحثية والجامعات في دولنا الخليجية المساحة المناسبة لرفد متخذي القرار بالخطط المناسبة لإعادة توجيه الدّفة نحو الشرق، بدلاً من مواصلة التعويل على احتمالية تمكن الغرب من إعادة علاقاته القديمة معنا.

إن العالم اليوم لم يعد أحادي القطبية، وهو بالتأكيد لن يعود أُحادي القطبية مطلقاً بسبب تغير العوامل التي تسيّر وتحكم هذا العالم الجديد الذي يقوم على المعرفة والتقنيات الرّقمية. لذلك لابد لنا من البحث عن أفضل الوسائل للتحالف مع أقطاب العالم الجديد، مهما تطلبت هذه الوسائل من أدوات فكرية ومعرفية وبنى أساسية تناسب الاحتياجات المستقبلية.