في غالبية الدول الخليجية، يعمل ما يزيد على نصف الموظفين المواطنين في القطاع العام منذ زمن طويل، ووفق معايير عالمية، هذه نسبة مرتفعة جداً، فالقطاع العام يمثل تقريباً 20 في المئة من إجمالي الوظائف في الدول الثرية. وتسعى الحكومات الخليجية إلى تحقيق حالة معاكسة، فنقل وظائف للقطاع الخاص هو أحد أهم المخططات – لسنوات مقبلة – وفق الرؤى الاقتصادية لدول مجلس التعاون الست.
والأسباب كثيرة وربما أبرزها هو تقليل النفقات الحكومية، خصوصاً المتكررة وتشمل رواتب موظفي القطاع العام. ويتصور محللون عديدون – ومواطنون عاديون يحاولون استيعاب الإستراتيجية الاقتصادية العامة – أن تعزيز دور القطاع الخاص يجري لتفادي دفع رواتب للمواطنين. وفي الواقع، لا يمثل ترشيد الإنفاق الحكومي الفائدة الأساسية لهذا التوجه، لأن النتيجة الكبرى ستعكسها البيانات الخاصة بإنتاجية الاقتصاد ككل.
لاستيعاب ارتباط القطاع العام والإنتاجية العامة للاقتصاد، ينبغي البحث في منطق التوظيف المفرط في القطاع العام، إذ تعاني القطاعات العامة في العالم – ومنها الخليج – من تضخم التوظيف والرواتب، مقارنة بالقطاع الخاص، لصعوبة قياس إنتاجية العمل الإداري. فالأجهزة البيروقراطية توسع دائماً نفوذها من طريق إيجاد وظائف جديدة تحت سيطرتها، ومنح منتسبيها رواتب كبيرة. وتسهل مكافحة هذه الظاهرة حين يمكن قياس الإنتاج في شكل شفاف وموضوعي، فذلك يسمح للمدقق بإثبات الحاجة لتلك المزايا من عدمه، لتحقيق أهداف المؤسسة. لكن حينما يصعب قياس الإنتاج – كما يحدث لمدققي العمل الإداري بالمؤسسات الحكومية – تصعب أيضاً معارضة تضخم التوظيف على أساس رصين وموضوعي.
ولذلك، يفوق متوسط رواتب القطاع العام، حتى في اقتصادات ثرية كالبلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، متوسط القطاع الخاص بنسبة تتفاوت بين 10 و20 في المئة. لكن ثمة تبايناً كبيراً في الرواتب بين القطاعين العام والخاص في دول المجلس: في البحرين، مثلاً، وخلال 2000 – 2010، ارتفع متوسط رواتب المواطنين في القطاع العام عنه في القطاع الخاص بنسبة 55 في المئة تقريباً. وهناك اعتبارات تبرر هذه الظاهرة، كاستخدام الحكومات الخليجية التوظيف في القطاع العام لتعزيز معيشة المواطن، متوازياً بوسائل أخرى، كدعم السلع.
لكن لهذه الاختلافات بين القطاعين العام والخاص تداعيات سلبية على فاعلية القطاع الخاص، ولها دور في إعاقة تحقيق رغبة الحكومات الخليجية في تشجيع المواطن على العمل في القطاع الخاص، فكلما تضخمت مزايا العمل في القطاع العام، صَعُب على القطاع الخاص استقطاب الموظفين المطلوبين للإنتاج. والتنافس شيء مرغوب فيه إذ يسعى جميع المتنافسين إلى الربحية، شرط خضوعهم إلى القواعد والقيود ذاتها.
لكن القطاعات العامة تتصف بأهداف غير ربحية تتعلق بظاهرة «الزحف البيروقراطي»، وبموارد وافرة، تجعل التنافس مع القطاع الخاص على الموظفين غير عادل، ما يعيق قدرة القطاع الخاص على العمل في شكل فاعل. وهذه مشكلة ملحة في دول مجلس التعاون، فكثر من أعلى المواطنين كفاءة يعملون في القطاع العام، في مناصب لا تسمح لهم بالاستفادة من قدراتهم، ويمارسون عملاً شبه وهمي، وهم راضون بذلك بسبب مزايا الوظيفة. وإن وضِعوا في وظيفة مناسبة في القطاع الخاص، قد يكونون منتجين، يصب في مصلحة المواطن، لكن يستحيل ذلك، بسبب المزايا التي يقدمها القطاع العام.
وتشكل هذه الظاهرة أحد أسباب ضعف أداء الشركات الخليجية غير النفطية في الأسواق العالمية. مثلاً، يصعب على الشركات الخليجية التنافس مع شركات أوروبية، لأن الشركات الخليجية تنافس في التوظيف قطاعاً عاماً يدفع للموظف 50 في المئة أو أكثر مما يدفعه القطاع الخاص، مقارنة بنسبة 20 في المئة في الاتحاد الأوروبي. ولا يعكس ذلك تدني رواتب القطاعات الخاصة الخليجية، بل إنه يحصل بسبب ارتفاع رواتب قطاعاتها العامة.
وهناك تداعٍ سلبي آخر لتضخم التوظيف في القطاع العام، هو التضخم في الإجراءات البيروقراطية المفروضة على القطاع الخاص. فعلى رغم أن الموظف في القطاع العام مرتاح لقلة الجهود المطلوبة لإنجاز العمل، هو يسعى للحصول على ترقية، ما يتطلب تحويل نفسه إلى حلقة محورية في سلسلة الإنتاج لدى المؤسسة. ويحفز ذلك الموظف على إضافة تعقيدات غير مطلوبة ربما في الإجراءات البيروقراطية، تسمح له بإبراز أهميته لتحقيق أهداف المؤسسة.
الخلاصة هي أن التضخم في التوظيف والرواتب لدى القطاع العام مكلف في شكل كبير، حتى اقتربت الدول الخليجية من عدم القدرة على تحمل هذه التكاليف في ظل تراجع أسعار النفط. لكن من أهم سلبياته غير المباشرة الضغط الذي يشكله على القطاع الخاص، فيصعب التضخم على صاحب المصنع عملية استقطاب الكوادر الوطنية المطلوبة للإنتاج، كما يولد إجراءات وتعقيدات بيروقراطية مرهقة. وفي الخليج، وفق المعايير العالمية، توظف القطاعات العامة نسباً عالية جداً من المواطنين، وتمنحهم رواتب مجزية كثيراً ما لا تكون متوائمة مع إنتاجيتهم كموظفين. وتتكرر دعوات المؤسسات العالمية – كصندوق النقد الدولي – إلى سياسات تقلص حجم القطاع العام.