تراجعت قدرة الحكومات الخليجية على توظيف مواطنيها في القطاع العام؛ نتيجة لهبوط أسعار النفط. ويشكّل كلّ من تقليص القطاع العام، والنموّ في الفئة الشبابية، تحدّياً لدول مجلس التعاون فيما يخصّ خلق عدد كافٍ من فرص العمل – التي تعتبَر مشكلة غير مسبوقة لاقتصادات ثرية كدبي أو قطر. فما هي الحلول المطروحة من قبل خبراء الاقتصاد؟ـ
أُجريت بحوث عديدة حول موضوع البطالة، وأسفرت عن اكتشاف مختلف السياسات التي نجحت – حتى ولو جزئياً – في اقتصادات أخرى، منها تحرير سوق العمل، وخفض مخصّصات العاطلين عن العمل. وعلى سبيل المثال، في إيطاليا، يستحيل تسريح الموظفين بشكل قانوني؛ وكما يحصل في العديد من السياسات غير المدروسة، فإنّه يظهر أنّ لهذه السياسة أثراً عكسيّاً؛ إذ إنّها لا تقلّل البطالة، بل قد تعزّزها؛ لأنّ الشركات تخشى من التوظيف، خوفاً من التورّط بعامل غير فعّال. (وينطبق نفس المبدأ على الزواج، إذ إنّ معدّل الزواج يتراجع، إن مُنع الطلاق)، وعلى عكس ذلك، في أمريكا، فإنّ الشركات قادرة على تسريح الموظفين؛ ممّا يقلّل من الحاجة للمخاطرة في لحظة التوظيف، وبالتالي يدّعي الخبراء أنّ ذلك سيقلّل البطالة.ـ
ولكن إلى حدّ ما، فإنّ سياسات مكافحة البطالة التقليدية لا تشكّل جوهر الحلّ؛ لأنها ترتكز على سوق العمل، التي لديها أهمية ثانوية. فالاقتصاد ظاهرة ديناميكية؛ نتيجة لشدّة سرعة التقدّم التكنولوجي. وبالتالي يمثّل العاطلون عن العمل موارد غير مفعّلة – كالأراضي البيضاء، أو العمارات الخالية؛ وإذاً فإنّ مسؤولية اكتشاف سبل تفعيلها تعود إلى روّاد الأعمال.ـ
فاز الاقتصادي النمساوي فريدريخ هايك بجائزة نوبل للاقتصاد عام 1974؛ لبحوثه التي أبرزت أهمية روّاد الأعمال كمحرّك أساسي للاقتصاد، ومن ثمّ لخلق فرص العمل؛ إذ إنّهم يبتكرون ويخترعون، ويرون فرصاً لاستخدام موارد المجتمع بشكل أفضل. وبالتالي، فإنّه من ناحية مبدئيّة، فإنّ أفضل مضاد للبطالة هو خلق بيئة مشجعة لريادة الأعمال الحيويّة.ـ
ولكن الموظفين الحكوميين – بشكل عام – لا يمتلكون مهارة ريادة الأعمال؛ ممّا يجبر المجتمع أن يعتمد على روّاد أعمال من القطاع الخاص؛ لخلق فرص العمل؛ ويعود ذلك إلى كيفية تحفيز الابتكار: فلا يتميز بيروقراطيو الخدمة المدنية بالعلم التخصصي والريادي لدى روّاد الأعمال في القطاع الخاص، وبالإضافة إلى ذلك، ليسوا محفّزين على بذل الجهود المطلوبة لاكتساب ذلك العلم؛ لأنهم لا يكسبون المردود المتعلق بالنجاح، ولا يتحمّلون خسائر الفشل. فإن تصفّحْتَ قصة حياة أحد أصحاب الثورات التجارية، كبيل جيتز، ستكتشف أنّ أهم المهارات – بعد العبقرية التجارية – هي الدأب الشديد؛ لأجل النجاح؛ ولأجل المردود المالي الذي يأتي نتيجة للنجاح. فلم تكن شركة «فيرجين» لتصبح شركة عالميّة لو أصرّ مؤسسها ريتشرد برانسون على أن يداوم فقط من الساعة 9 صباحاً إلى 5 مساءً.ـ
وعلى الرغم من أفضلية ريادة الأعمال الخاصة عموماً، فإنّ شدّة العجز في الاستثمارات الأساسية – كالبنية التحتية – لدى بعض الدول الفقيرة تفتح مجالاً للحكومة كي تتبنّى دور رائد الأعمال، وبشكل فعّال، إلى أن يصل المدخول القومي إلى مستوى متوسط. وتقوم الحكومة بذلك عن طريق إنجاز قائمة مراجعة من استثمارات معلومة، ومن خلال ذلك تخلق الحكومة الملايين من فرص العمل. ولكن في نهاية الأمر، فإنّ الاقتصادات تحتاج إلى تطوير تكنولوجيات متقدّمة ذات قيمة تجارية لخلق فرص العمل؛ وفي تاريخ البشرية، فشلت الحكومات عموماً في هذا المجال. وقد مرّت الصين – مؤخراً – في هذه الدورة، إذ إنّ مشاريع الحكومة التجارية تحوّلت من وسيلة فعاّلة لخلق فرص العمل، ولتنمية الاقتصاد، إلى أن تصبح هي السبب الرئيسي للأزمة الاقتصادية التي تشهدها حالياً؛ حيث إنّه قد هُدرت أموال كثيرة على استثمارات فاشلة تجارياً، وتهدَد الصين – اليوم – بموجة بطالة.ـ
والحمد لله، فقد تقدّمت دول مجلس التعاون اقتصادياً إلى المستوى الذي يجعل ريادة الأعمال لدى القطاع الخاص أفضل من ممارسات بيروقراطيّي الخدمة المدنية في ذلك المجال. ولكن دون تعمّد، فإنّ الحكومات عرقلت ريادة الأعمال في القطاع الخاص عبر المزايا المجزية المعروضة للمواطنين؛ للعمل في القطاع العام. فحينما يظهر مواطن خليجي يمتلك جينات تمنحه قدرات المبتكر ستيف جوبز، ليعمل في القطاع العام؛ حيث يجذبه الراتب الرفيع، والدوام القصير. وعلى عكس ذلك، في الدول الغربية، لم تستقطب الخدمة المدنية أحداً بناءً على الراتب!ـ
إذاً، إن ترغب دول مجلس التعاون أن تتطور في خلق فرص العمل، فالحلّ لا يكمن في إصلاحات سوق العمل، كخفض مخصّصات العاطلين عن العمل، أو إضعاف النقابات. بل ينبغي عليها أن تخلق بيئة تدفع من يمتلك القدرات الكامنة لدى ريادة الأعمال نحو القطاع الخاص، بدلاً من العمل البيروقراطي في الخدمة المدنية.ـ
فقد وصف المؤلف الفرنسي أنتوان دي سان إكسوبيري جوهر ريادة الأعمال بدقّة حينما قال: “إن ترغب في بناء سفينة، لا تنادِ الرجال لجمع الحطب، ولا توزّع المهام عليهم، ولا تُعطِهم الأوامر؛ بل يجب أن تزرع فيهم روح التشوّق للبحار الواسعة غير المحدودة”. وفيما يخصّ المواطن الخليجي – لسوء الحظ، يتطلب “زرع روح التشوق” إزالة المزايا المجزية لدى وظائف القطاع العام.ـ
ولكن يبقى هناك دور للمجتمع المدني لتسهيل التحوّل. فجمعيّة الريادة الشبابية – وهي منظّمة غير حكومية بحرينية – لديها برنامج اسمه «فرصة»، يهدف إلى تعزيز ريادة الأعمال من خلال مكافحة بعض العوائق غير البارزة، كانعدام التوعية حول طبيعة المخاطرة التجارية، وقلّة الإرشاد المهني. وتشير مديرة البرنامج، م. أميرة محمود، إلى ابتعاد كثير من روّاد الأعمال المحتملين عن ريادة الأعمال؛ بسبب تصوراتهم الخاطئة عن الحاجة لتمويل المشاريع ذاتياً، أو برأس مال عائلاتهم أو أصدقائهم حصرياً؛ ففي الواقع، يوجد العديد من مصادر التمويل الخارجية، تعرض بشروط معقولة. وحقق البرنامج بعض الإنجازات في مواجهة هذه القضايا، كما نجح البرنامج في تعزيز نظرة المجتمع نحو ريادة الأعمال. وعلى نحو ملائم، يمثّل كل من البرنامج والجمعية أنشطة خاصة.ـ
الخلاصة في النهاية، أنّه في الاقتصادات التقليدية، فإنّ دور ريادة الأعمال الحيوية في مكافحة البطالة أهمّ من دور سياسات سوق العمل. بينما في الاقتصادات المميزة لدى دول مجلس التعاون، فإنّه لا دور للعاملَيْن المذكورين أعلاه؛ نتيجة للتوظيف المفرط في القطاع العام. ولكن تتغير الأوضاع حالياً، حيث إنّ الحكومات الخليجية أُجبرت على تجميد التوظيف في القطاع العام. ومع تغيّر الحوافز المالية، التي أصبحت – الآن – تدفع المواطنين الخليجيين نحو ريادة الأعمال؛ بحثاً عن أرزاقهم، فإنّه ينبغي على المجتمعات الخليجية أن تحدّث منظورها حول ريادة الأعمال بشكل موازٍ، كما إنّ عليها أن تحتضن وتقدّر روّادها التجاريين؛ فقد قال خبير الأعمال ريتشي نورتون: “لتجاوز مخاوفك، عليك أن تواجهها، وألّا تتجنّبها”