في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، اندلع صراع عسكري بين القطبين الأمريكي والسوفيتي. وتمثّل هذا الصراع أيضاً في معركة فكرية بين النموذجين الاقتصاديين اليميني (الرأسمالي) واليساري (الاشتراكي-الشيوعي)؛ ونتيجة لشدّة الاستقطاب، فقد فَرَضَ هذا الصراع على كل أعضاء الكتلة الأمريكية النظام الرأسمالي، مع أسواقه الحرّة، واللامركزية في الأنشطة الاقتصادية؛ بينما اضطر حلفاء الاتحاد السوفيتي إلى تبنّي نظام اقتصادي معاكس، يتصف بمركزية شديدة في الإنتاج، والتوظيف، والاستهلاك، إلخ.

ولحسن الحظ، اتجهت دول مجلس التعاون إلى النموذج الرأسمالي، الذي ساهم في نهضة اقتصادية غير مسبوقة في الإقليم. وعلى الرغم من الدور الأساسي للنفط في الطفرة المستدامة، إلّا أنّ هذا الدور هو مكمّل للرأسمالية، وليس بديلاً لها؛ حيث إنّ هناك عدداً من الدول الأخرى – داخل وخارج الشرق الأوسط – تتمتّع بكميات هائلة من الموارد النفطية والطبيعية، لكنها تعاني من فقر وتخّلف اقتصادي، أساسا؛ً لأنها لم تؤمن بأهمية الأسواق الحرّة، وأصرّت على الإبقاء على المركزية الاقتصادية.ـ

وفي عقد الثمانينيات، انتصرت الكتلة الغربية اليمينية على منافسها اليساري؛ لأسباب اقتصادية. يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: «أسمع فأنسى؛ أشهد فأتذكر؛ أمارس فأفهم». شهدت ومارست أجيال متتالية من البشرية النموذج الاقتصادي اليساري، والتباين الشديد بين أداء الاقتصادات الرأسمالية، والاقتصادات الاشتراكية-الشيوعية. وحتى مَن كان يشجّع الشيوعية بحماس لأسباب أيديولوجية خلال عقد الستينيات، أدرك ثغراتها المحورية، وراجع رأيه حول الطريق الأفضل. وربّما أبرز مثال على ذلك هو دول أوروبا الشرقية، التي لجأت للرأسمالية بعد سنوات عدّة من الفقر، وازدهرت اقتصاداتها فوراً.ـ

ومع مرور الزمن، ظهر جيل لم يشهد، ولم يمارس الاشتراكية. ولذا؛ نجد أنّ في حملة انتخاب رئاسة الجمهورية الأمريكية، يطرح المرشّح الديموقراطي بيرني ساندرز مختلف السياسات اليسارية المركزية، ويحصد أصواتاً ملحوظة، لاسيما في فئة الشباب الذين قد «سمعوا فنسوا» عن نتائج الاشتراكية-الشيوعية، وفق مقولة كونفوشيوس.ـ

ولا تزال سياسات ساندرز افتراضية، وغير محتمل تبنّيها؛ نظراً لأنّ هيلاري كلينتون تتّجه نحو الفوز في انتخابات الحزب الديموقراطي. ولكنّ الشعب الفنزويلي انغمس في الشيوعية، تنفيذاً لرؤية رئيسهم السابق، هيوجو تشافيز. واندلعت حالة فوضى اقتصادية، ظهر فيها العديد من السلبيات المتوقّعة، أبرزها: تضخّم مفرط في أسعار المستهلك، وحالات نقص شديد في معروض السلع الأساسية، وانهيار قيمة العملة، وانقطاع الكهرباء لمُددٍ طويلة يومياً، وتدهور أمني، وانتشار الفساد.ـ

وما يجعل هذه الحالة مؤسفة للغاية هو أنّ فنزويلا دولة ثريّة؛ إذ إنّها تمتلك أكبر احتياطيّات نفطية في العالم، تفوق ما يوجد في السعودية بـ 10%. ولا شكّ أنّ حجم الصعوبات التي تواجهها فنزويلا ازداد؛ بسبب تراجع سعر النفط، ولكنّ الأزمة الحالية تعود – بالأساس – إلى المركزية الشديدة في الإنتاج، الّتي دفعت الحكومة إلى منع الموظفين الحكوميّين من الدوام توفيراً للطاقة، وإلى تهديد مدراء المصانع بالاعتقال كعقاب لجريمة «عدم الإنتاج».ـ

ونحن نتمنّى التوفيق للشعب الفنزويلي، غير أنّه ينبغي علينا – في الوقت نفسه – أن ندرس أزمته جيّداً؛ لكي لا نقع في الأخطاء نفسها. وأهمّ استنتاج نخلص إليه من هذه الأزمة هو أنّه يجب الابتعاد عن الاشتراكية والشيوعيّة بأية طريقة؛ لقد اكتسبت البشرية هذا الدرس قبل 25 سنة، ولكنّ ما يحصل في فنزويلا اليوم، وما يطمح إليه جزء كبير من الناخبين الأمريكيين، يؤكّدان أنه درسٌ مفقودٌ، لم تتمّ الاستفادة منه.ـ

ومن أهمّ الظواهر التي يجب تفاديها هي ظاهرة فقدان المرونة والعقلانية في السياسات الاقتصادية؛ لإنّ حكومة فنزويلا تمرّ حالياً بحالة مكابرة، كانت قد مرّت بها معظم الأنظمة الاشتراكية-الشيوعية؛ إذ من المعروف أنّه حينما تبدو سياسة ما بنتيجة سلبية (سياسة تتعلق بالبرنامج الاشتراكي-الشيوعي) تستنج الحكومة دائماً أنّ سبب فشل هذه السياسة هو عدم الانغماس في البرنامج الاشتراكي-الشيوعي، بشكلٍ كافٍ؛ وبالتالي تتجه نحو مزيد من السياسات الاشتراكية-الشيوعية.ـ

وعلى سبيل المثال، حينما يتسبّب التضخم الشديد بحالة قصور لمختلف السلع في السوق، تقيّد الحكومة الأسعار التي تحدّدها الشركات؛ وحينما يؤدي ذلك إلى سوق سوداء وعدم معالجة القصور، تنظر الحكومة في تأميم الشركات، وعدم تعويض أصحابها بشكل عادل؛ وحينما تستمر حالة الفوضى في الإنتاج، وينتشر الفساد، تهدّد الحكومة المدراء والموظفين «غير الوطنيين» و «غير المتعاونين» بالاعتقال، بل وبأسوأ من ذلك. ولا يمكن أن تعتبر الحكومة البرنامج الاشتراكي-الشيوعي جزءاً من المشكلة؛ إذ تصبح غير قادرة على معالجة نفسها، إلى أن ينهار الاقتصاد، ومن ثمّ النظام كلّه. وهذه خطوات مؤلمة جدّاً للشعب، لاسيما الطبقة الفقيرة، التي تمثّل – نظرياً – الجهة الأكثر استفادة من البرنامج الاشتراكي-الشيوعي.ـ

ومن إيجابيات التخطيط الاقتصادي لدى دول مجلس التعاون – حتى الآن – هو ترسّخ مبدأي المرونة والعملية؛ إذ إنّه قد تمّ تغيير النموذج الاقتصادي لدى الدول الخليجية مرّات عديدة، حسب الحاجة، وبناءً على تشخيص منطقي للاحتياجات، ولفعالية الوسائل المتاحة. فعلى سبيل المثال، انتقل الاقتصاد البحريني من الاعتماد على تجارة اللؤلؤ، إلى نهضة النفط، والصيرفة الإسلامية، ومؤخراً إلى جهة مستقطبة لرأس المال الدولي. وحتى السعودية – التي تُنتقَد دولياً؛ بسبب انغلاق مجتمعها واقتصادها – تخطّط بجدية لإنشاء قطاع سياحي خارج إطار المنشآت الدينية، وتسعى لاستقطاب المستثمرين الدوليين، ومنح العمالة الوافدة بطاقة إقامة، وإلخ.ـ

ما نخلص إليه – في الختام – هو أنه في العديد من وزارات دول مجلس التعاون، انفتحت المناصب الكبرى إلى أبناء الجيل الجديد؛ للاستفادة من مهاراتهم وأفكارهم غير التقليدية. ولكن على الرغم من تميّز هذه الكوادر الناشئة، يظلّ نظراؤهم في الدول الغربية يعانون من ثغرة خطيرة، وهي الإعجاب بالفكر الاشتراكي-الشيوعي، الذي يرجع سببه إلى أنهم لم يروا المآسي التي شهدها الشعب السوفيتي في القرن العشرين، والتي فرضتها الحكومة السوفيتية على دول أوروبا الشرقية.ـ

نحن – اليوم – نتعاطف مع الشعب الفنزويلي؛ لأنه في الوقت الراهن، تفرَض عليه الأخطاء نفسها التي ارتكبتها البشرية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما أننا نتمنّى أن تكون هذه الأزمة كافية لإقناع من يطرحون سياسة الاشتراكية-الشيوعية بجدّية؛ إقناعهم بأنها سياسة فاشلة؛ ولقد حذّرنا من هذه السياسة – من قبل – الأديب جيورج أورويل، وذلك في روايته «مزرعة الحيوانات»، بقوله:ـ

“لا تتصوّروا، أيّها الرفاق، أنّ القيادة متعة!… فلا أحد يؤمن بقوّة بالمساواة بين المواطنين أكثر من الرفيق القائد نابليون. وسيفرح فعلاً بالسماح لكم باتخاذ قراراتكم بأنفسكم. ولكن قد تتّخذون في بعض الأحيان قرارات غير صحيحة، يا رفاق، وعندها ماذا سيحدث لنا؟”ـ