التاريخ: 7 أبريل 2020م
صدر عن مركز “دراسات” تقرير بعنوان “تداعيات أزمة الكورونا: نظرة اقتصادية” للدكتور عمر العبيدلي وغادة عبدالله، ويتحدث هذا التقرير عن التداعيات الاقتصادية لأزمة الكورونا، والحزمات الاقتصادية التي أطلقتها الحكومات العالمية للتصدي للأزمة.
تداعيات أزمة كورونا: نظرة اقتصادية
1. المقدمة والخلاصة
تسببت أزمة كورونا بضررٍ اقتصاديٍّ كبيرٍ يتجاوز التداعيات الصحية المباشرة للفيروس. يرصد ويحلل هذا التقرير أبرز المستجدات الاقتصادية، مع الإشارة إلى أن التداعيات التفصيلية المتعلقة بأسواق النفط ستتم تغطيتها في تقرير منفصل. والاستنتاجات الرئيسية هي كالتالي:
- سيتضرر الاقتصاد العالمي من فيروس كورونا بشكل كبير، من ناحية معدل النمو، وأيضاً من ناحية مستوى المعيشة؛ وسيكون لبعض التداعيات، ومنها التغييرات الجذرية في نظام التجارة العالمي، أثرٌ مستدام.
- في الوقت الراهن، ونظراً لتعقّد الأزمة، وانعدام اليقين حول انتشار الفيروس والسياسات التي ستتبناها الحكومات، تتراجع دقة النماذج الاقتصادية التي يمكن استخدامها لتقييم الأثر المتوقع للأزمة. ومع ذلك، أدق توقعات حالياً تشير إلى تراجع ملحوظ (2.6%) في معدلات النمو الاقتصادي في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
- توجد شريحةٌ واسعة من السياسات النقدية (monetary) والمالية (fiscal) تساعد في التصدي للأزمة. تعد السياسات المالية أعلى كفاءة من السياسات النقدية، ولكن تنفيذها أصعب وأبطأ؛ إلا أن جميع هذه السياسات تأتي بمخاطر اقتصاديةٍ ملحوظة على المدى الطويل.
2. التداعيات الاقتصادية
2.1. صعوبة تقييم حجم الضرر الاقتصادي مالياً
عند بعض التطورات المضرة بالاقتصاد، يمكن للخبراء الاقتصاديين تقييم حجم الأثر الاقتصادي السلبي على أساسٍ مالي. فمثلاً عندما تتراجع أسعار النفط بشكلٍ حاد، أو تفرض دولةٌ ما تعرفةً على صادرات دولةٍ أخرى، فإن عملية تقييم الأثر تتطلب نمذجةً اقتصادية وإحصائية متقدمة، وتتطلب وقتاً ملحوظاً لجمع البيانات وتطوير النماذج.
وفي حالة أزمة فيروس كورونا، فإن الوقت المطلوب مضاعف، بسبب حجم الأزمة وتعقّدها، وقلة البيانات وصعوبة النمذجة، وأيضاً لأنها ما زالت تتطور بشكلٍ يصعب التنبؤ به. لذا، فإن فائدة التقديراتٍ حول حجم الضرر الاقتصادي الذي ستسببه الأزمة هي محدودة. لذا ينبغي التعامل مع أي تقديرٍ يتداول إعلامياً بحذر؛ فالخبراء متأكدون من وجود ضررٍ كبير.
2.2. التداعيات الاقتصادية قصيرة الأجل: المجال الصحي
- تكلفة الإجراءات الصحية، التي تشمل الحجر والتحاليل، والمعدات الخاصة، والساعات الإضافية للكوادر المتخصصة.
- الإجراءات الوقائية الصحية، التي تشمل المعقمات والكمامات، واللقاحات (عندما تتوفر قريباً).
- الإجراءات الوقائية غير الصحية، التي تشمل الترتيبات الأمنية عند الحدود وفي المنشآت العامة، ولإنفاذ الحجر العام وحظر التجوّل.
- ساعات العمل المفقودة للمصابين وبسبب الغياب الوقائي، وبسبب الغياب للاهتمام بالأطفال بعد إغلاق المدارس.
2.3. التداعيات الاقتصادية قصيرة الأجل: المجالات غير الصحية
ستتضرر جميع القطاعات، ولكن توجد خمس قطاعات ستتحمل العبء الأكبر بسبب آثار الفيروس المباشرة، وبسبب آثار الإجراءات الصحية الوقائية، وهي:
- السياحة.
- الطيران، مثل تخطيط شركة KLM الهولندية لإلغاء ما يصل إلى 2000 وظيفة.
- البيع بالتجزئة.
- المطاعم.
- المواصلات من نقطة إلى نقطة (point-to-point)، التي تشمل سيارات الأجرة والحافلات.
ستتأثر الدول الخليجية بشكلٍ مضاعفٍ من هذه التطورات، لأنها تعتمد اعتماداً كبيراً على هذه القطاعات، حيث تلعب السياحة الدينية، لا سيّما الحج، دوراً مهماً في الاقتصاد السعودي، كما يتمحور اقتصاد إمارة دبي حول السياحة والبيع بالتجزئة والمطاعم والطيران المدني.
وبالإضافة إلى ذلك، ستواجه سلاسل الإنتاج اضطراباتٍ كبيرة، بسبب إغلاق المنافذ والمصانع ذاتها كإجراءٍ وقائي. لذلك سوف تتضرر الدول المعتمدة على التجارة الدولية، ومنها الدول الخليجية، أكثر من الدول التي تتصف بحدٍّ أدنى من الاكتفاء الذاتي، لأن صادراتها ستواجه تراجعاً في الطلب، ولأن وارداتها ستزداد كلفة.
وسيبرز أكبر ضررٍ اقتصادي في الدول التي تعتمد على الاقتصادات الصينية والكورية والإيطالية (حالياً، قد تتغير الصورة مع انتشار الفيروس)، كونها الاقتصادات الأكثر تضرراً صحياً من الفيروس. وتقع الدول الخليجية ضمن هذه الفئة، لأن الصين وكوريا الجنوبية من أهم مستهلكي النفط في العالم، لا سيّما النفط الخليجي. وانعكس ذلك على هيئة تراجعٍ كبير في أسعار النفط يتجاوز 50%، ويمسّ جميع قطاعات الاقتصادات الخليجية.
وفي حال عدم تقديم مساعداتٍ نقدية من المصارف المركزية، ستسبب أزمة كورونا أزمةً مالية أيضاً بسبب الضغط على السيولة، منطلقةً من المصارف التي تخدم القطاعات الخمسة المذكورة أعلاه. فتراجعت أسعار الأسهم بشكلٍ كبير خلال عام 2020، وتلاشت مكاسب ثلاث سنواتٍ أو أكثر، ما يشكل ضغطاً كبيراً على ميزانيات المصارف والأسر وصناديق التقاعد.
وحسب تقديرات أحدث النماذج الاقتصادية والإحصائية، سيتراجع معدل نمو الاقتصاد الأمريكي والأوروبي لعام 2020 بنسبة 2.6% بسبب هذه التداعيات المباشرة للفيروس. كما ستتراجع الأرباح التجارية الموزعة (dividends) بنسبة 25-28% في الاقتصادين.
4.2. التداعيات الاقتصادية طويلة الأجل
نظراً لقِصَر الفترة الزمنية منذ بداية الأزمة، لم تبرز بعد التداعيات الاقتصادية طويلة الأجل. ولكن في حال استمرار الأزمة، وانعدام تبنّي سياسات مالية ونقدية لمعالجتها، من المتوقع أن يشهد الاقتصاد العالمي ما يلي:
- إفلاس الشركات غير القادرة على تغطية التزاماتها المالية، كجزءٍ من حلقة انكماشٍ اقتصادي مفرغة.
- إفلاس الأفراد غير القادرين على تسديد ديونهم، مثل قروض العقار والسيارات، كجزءٍ من حلقة انكماشٍ اقتصادي مفرغة.
- تسريح الموظفين الذين يعملون في شركات أصبحت غير قادرة على دفع رواتبهم، كجزءٍ من حلقة انكماشٍ اقتصادي مفرغة.
- انهيار النظام المالي بسبب الضغط على السيولة.
- تراجعٌ في العولمة، وارتفاعٌ في الاكتفاء الذاتي في سلاسل الإنتاج لكل دولة، سعياً لتفادي أزماتٍ اقتصاديةٍ مستقبليةٍ مماثلة، ولكن على حساب الارتفاع في مستوى المعيشة الذي تسببه العولمة.
ونظراً لسرعة طرح سياساتٍ ماليةٍ ونقدية (انظر أدناه)، فلن تبرز على الأرجح هذه التداعيات إلا بشكلٍ محدود، ولكن توجد مخاطر أخرى متعلّقة بهذه السياسات، مذكورة أدناه أيضاً.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن فيروس كورونا سيؤدي إلى التقليل من اللامساواة في العالم، حيث أن الدول الغنية والأفراد الأغنياء هم الأكثر تأثّراً بالمرض. فعبر التاريخ، عادةً ما نجد أن الأمراض والأوبئة تتفشّى أكثر عند الفقراء ولكن اليوم نجد، وخاصةً خارج الصين، أن الأغنياء هم الأكثر عرضةً للمرض، فنجده يصيب الناس على السفن السياحية والسياسيين ورواد الأعمال والمشاهير. الأغنياء والنخب هم أكثر عرضةً للإصابة بمرض كورونا، لأنهم يسافرون أكثر، ويعيشون في المناطق الحضرية الكبيرة، ويختلطون بالكثير من الناس.
كما نجد أن ثروات الأغنياء هي الأكثر تأثّراً من تفشّي الفيروس، حيث تدهورت أسواق الأسهم العالمية، وتم تسجيل انخفاضٍ حاد في أرباح الشركات التي يملكها الأغنياء. وتراجعت الثروات المجتمعة لأغنى 500 شخصٍ في العالم بحوالي 500 مليار دولار أمريكي مع استمرار انتشار الفيروس. وتكبّد أغنى ثلاثة أشخاص: جيف بيزوس وبيل جيتس وبرنارد أرنو، أكبر الخسائر، مع انخفاض ثرواتهم مجتمعة بحوالي 30 مليار دولار أمريكي.
3. الحزمات الاقتصادية التي تتصدى للأزمة
3.1. مبادئ عامة
عند الأزمات الاقتصادية، تقدّم الحكومات حزمات دعمٍ اقتصادي لخفض الآثار السلبية، وسعياً لإنعاش الاقتصاد. لكن الآثار الاقتصادية السلبية للأوبئة تختلف بشكلٍ كبير عن الآثار المتعلقة بالأزمات الاقتصادية التقليدية، وتتطلب إجراءاتٍ خاصة، وبالتحديد عند رسم حزماتها الاقتصادية لمعالجة أزمة كورونا، والتزمت الحكومات بشكلٍ عام بالمبادئ التالية:
أولاً: ليس الهدف تعزيز إجمالي الطلب (aggregate demand) في الاقتصاد، مثلاً عن طريق إطلاق مشاريعٍ استثماريةٍ حكوميةٍ كبيرة، أو خفض الضرائب؛ بل هو تقديم التأمين الاجتماعي، ما يعني مساعدة من تراجع (أو انقطع) دخله، سواءً من الشركات أو الأفراد. ونظراً لصعوبة إنشاء منظومةٍ بشكلٍ مستعجل لتميّز بين من تضرّر اقتصادياً بشكلٍ محدود أو بشكلٍ كبير، قد تحتوي الحزمات على تحويلاتٍ ماليةٍ مباشرةٍ للأُسر والشركات دون شروطٍ أو تعقيدات.
ثانياً: نظراً لحجم الأزمة، لن تؤثّر اعتبارات حجم وتوجّه الدين العام على الأرجح على الحزمات، لأن الاقتصادات تواجه تهديداً وجودياً.
ثالثاً: ينبغي أن تحفّز الحزمات الشعوب على الالتزام بتوجيهات الحجر المنزلي، لكي تساهم في خفض سرعة انتشار الفيروس، نظراً للتعب النفسي الذي يسببه الحجر المنزلي وحظر التجوّل، الذي يدفع الناس نحو التمرّد ضد هذه الإجراءات مع الزمن.
رابعاً: ينبغي على الجهات النقدية توفير سيولةٍ كافيةٍ للأفراد والشركات تفادياً للانهيار الاقتصادي. وبالتحديد، بدأ الطلب على التسهيلات المالية يرتفع بشكلٍ حاد، لأن إيرادات الشركات والأفراد (الرواتب) تراجعت بشكلٍ حاد، بينما الالتزامات المالية ما زالت قائمة؛ وأيضاً كإجراءٍ احتياطي لضمان السيولة في الشركات. وبالتالي يجب ضمان قدرة المصارف على الاستجابة للارتفاع في الطلب. وتجدر الإشارة إلى أن الاقتصادات المتقدمة قد تبنّت سياساتٍ نقديةٍ متساهلة (loose monetary policies) منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ركّزت على انخفاض أسعار الفائدة، وبالتالي لا يوجد إلا مجالٌ محدود لخفض أسعار الفائدة، فيجب استخدام وسائل أخرى لتعزيز السيولة. هذه مشكلة تواجهها الدول الأوروبية التي تستخدم عملة اليورو، حيث وصل سعر الفائدة إلى مستوى يقارب الصفر قبل بداية الأزمة.
3.2. السياسات النقدية (Monetary Policies)
- خفض أسعار الفائدة إلى الصفر أو شبه الصفر، ومدّ التسهيلات المالية المضمونة (collateralized credit) بسعر فائدةٍ يبلغ صفراً لجميع المؤسسات المالية مع سقفٍ عالٍ جداً؛ مثلاً: 50 مليار درهم في حالة الإمارات. وتهدف هذه السياسة لضمان السيولة في النظام المالي، وتفادي حاجة المصارف إما لرفض الطلب للتسهيلات، أو لحل استثماراتٍ غير سائلة لتلبية الطلب.
- خفض قيود رأس المال (capital buffers) المفروضة على المصارف التي عادةً تقلّل من قدرتها على توفير التسهيلات المالية، والتي تم تشديدها بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
- سياسة شراء الأصول المالية من المصارف (asset purchase program) بأسعارٍ مرتفعة لتوفير قناةٍ إضافية من السيولة للمصارف.
- طلب تسهيل جداول تسديد القروض من المصارف، لا سيّما القروض العقارية (mortgages).
قامت دولٌ عدة بتبنّي هذه السياسات (أو مجموعةٍ فرعيةٍ منها)، مع مواصفاتٍ مختلفة تناسب وضعها الاقتصادي الداخلي، منها الولايات المتحدة، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة. كما بادر صندوق النقد الدولي بدعمٍ ماليٍّ مباشر للدول المتضررة عن طريق تقديم قروضٍ بأسعار فائدةٍ منخفضة. وفي بعض الدول، كالإمارات، تم تحديد سقفٍ محدد لبعض نوعيات الدعم المالي؛ بينما في دولٍ أخرى، على رأسها الولايات المتحدة، حرصت المصارف المركزية على عدم وضع سقف، وأشارت إلى ذلك بوضوح، من أجل تعزيز الثقة.
وفي الدول الخليجية، التي تربط عملاتها بالدولار الأمريكي، سعت المصارف المركزية لدعم الاقتصاد عن طريق هذه الإجراءات، وأيضاً إلى تعزيز ثقة المستثمرين حول سعر الصرف الثابت، عن طريق الإشارة إلى حجم احتياطات العملات الأجنبية. ولكن رغم ذلك، ارتفع الضغط على المعاملات الخليجية في الأسواق المالية.
وتجدر الإشارة إلى أن محافظي المصارف المركزية قد أكدوا الدور الثانوي الذي تلعبه السياسة النقدية في التصدّي للأزمة، وأن الدور الرئيسي يعود إلى السياسة المالية. ورغم ذلك، فإن السياسات النقدية مهمّة كنقطة انطلاق، لأنها لا تستدعي التنسيق بين جهاتٍ حكوميةٍ عدّة، ولا تستدعي موافقةً برلمانية، وهي عملية تستغرق وقتاً وتجعل السياسات المالية بطيئة مقارنةً بالسياسات النقدية. وهذه مشكلةٌ تعيق قدرة الحكومة الأمريكية على تنفيذ سياساتٍ ماليةٍ مُجدية، إذ أصبح الحزبان الديمقراطي والجمهوري غير قادرين على الاتفاق على أي سياسة، بسبب صراعاتٍ سياسيةٍ عميقة ودائمة.
3.3. السياسات المالية (Fiscal Policies)
- سياسات لدعم الإجازات المرضية والعائلية والحجر، عن طريق تشريعاتٍ تسمح بمدّةٍ مُطوّلة من الإجازات، وأيضاً عن طريق دعمٍ ماليٍّ مباشرٍ لجهات العمل، يتمثّل في تحويلاتٍ مباشرة لتلك الجهات لتغطية الرواتب في تلك الفترات، ويتمثّل أيضاً في إعفاءاتٍ من الضرائب التي تدفعها جهات العمل للحكومات. وتسعى هذه السياسات جزئياً إلى تحفيز الناس للالتزام بتوجيهات الحجر المنزلي وحظر التجوّل.
- تعزيز ميزانية البرامج القائمة التي تدعم مستوى معيشة ذوي الدخل المحدود، ومنها قسائم المواد الغذائية (food vouchers) أو دعم أسعار السلع الأساسية، وإعانات البطالة (unemployment benefits).
- تحويلاتٌ مالية مباشرة للأسر دون قيود أو شروط، وللشركات عادةً في صيغة إعفاءاتٍ أو خصوماتٍ على الضرائب المعتادة.
- تعزيز ميزانية نظام الصحة العامة، لضمان توفير الكوادر والمعدات والأدوية بالكميات المطلوبة.
- تأميم شركات كبيرة متضررة، مثلاً كتأميم الطيران الإيطالي.
وتبنّت أو تتبنّى حالياً جميع دول العالم مجموعاتٍ مختلفةٍ من هذه السياسات، تناسب ظروفها الخاصة. وبدأت الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة بسياساتٍ من هذا النوع، وانتشرت الحزمات المالية غرباً مع الفيروس، وما زالت دول أوروبا والولايات المتحدة في مرحلة مناقشة السياسات المالية في البرلمان.
3.4. سياساتٌ أخرى
فيما يخص الدول الخليجية، تجدر الإشارة أيضاً إلى سياسة النفط، تحت مظلة أوبك. فمع تزايد حصة النفط الصخري ومرونة إنتاجه، أصبحت دول أوبك غير قادرةٍ على رفع الأسعار جماعياً إلا بالتعاون مع دولٍ خارج أوبك، تحت مظلة أوبك+. نجحت اتفاقية أوبك+ في تعزيز أسعار النفط في الفترة من ديسمبر 2016 إلى مارس 2020، ولكن أعلنت روسيا رغبتها في الخروج من الاتفاقية، ما أسفر عن عودة إنتاج الدول الأعضاء إلى مستوياته الطبيعية.
وأرادت المملكة العربية السعودية استمرار التعاون تحت مظلة أوبك+ كوسيلة للتصدي لأزمة كورونا، وشاركتها هذه الرؤية دولٌ خليجية مثل دولة الكويت والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين. ولكن مع انسحاب روسيا، إنتهت سياسة التعاون لأجل رفع سعر النفط، لأن الحصة السوقية لأوبك تقلّ عن نصف السوق، وبالتالي ستؤدي أي محاولةٍ لخفض الإنتاج إلى توسّع الحصّة السوقية للنفط الصخري على حساب حصة أوبك، وهو ما سيشكل خسارةً اقتصاديةً كبيرة. وقد تعيد روسيا النظر في موقفها، لكن لأسبابٍ عدة مذكورة في التقرير المرافق، وليس ذلك مرجّحاً.
وفي جميع اقتصادات العالم، فرضت الأزمة على المنظمات أن تطوّر أنظمتها للعمل عن بُعد. ومع الاستثمارات التي حصلت والتي ستحصل على مدى الأشهر القادمة، قد تشهد المجتمعات تغيّراً جذرياً في أسلوب العمل، مع انتقالٍ ملحوظ إلى العمل عن بُعد. وهذا التوجه مدعومٌ أيضاً من ناحية الاعتبارات البيئية، لأن العمل عن بعد يقلل البصمة الكربونية للعمل. وسيؤثر ذلك على خدماتٍ عدة، لا سيّما قطاع التعليم، وقطاع البيع بالتجزئة، وسيعزز الاعتماد على شركات توصيل السلع كأمازون، التي تخطط حالياً لتوظيف ما يزيد عن 100 ألف موظفٍ جديد؛ وقد يحفّز الشركات على تعزيز اعتمادها على الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة العمل (international outsourcing).
3.5. المخاطر
رغم الحاجة الملحّة إلى هذه السياسات، فإنها تتّسم بمخاطر عدة. فمن ناحية السياسة النقدية، قد تولّد التسهيلات المالية أنشطةً تجارية ومالية غير مسؤولة، مثل استمرار أنشطةٍ تجارية غير مجدية اقتصادياً، أو سوء استخدام القروض ذات أسعار الفائدة المنخفضة؛ تتسبب في أزمةٍ مالية لاحقة. فقد تم وضع القيود سابقاً بسبب انتشار ظاهرة الاستثمارات غير المجدية، بعدما أدت إلى الأزمة المالية العالمية. وبالتالي ستتطلّب حماية النظام المالي من عودة هذه الظاهرة رقابةً ذكية وجهوداً جبارة من الجهات المسؤولة عن النظام المالي.
ومن ناحية السياسة المالية، فهناك قلقٌ كبير حول كيفية تمويل هذه السياسات على المدى الطويل، لا سيّما نظراً لاستمرار حالة ارتفاع الديون العامة بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008. في دولٍ كالولايات المتحدة، تجاوز الدين العام 100% من إجمالي الناتج المحلي قبل أزمة كورونا، كما أن المجتمع لا يتقبّل زياداتٍ في الضرائب؛ وبالتالي مع الحزمة الجديدة من السياسات المالية، قد يواجه المجتمع إما أزمة اقتصادية كبيرة (إفلاس الدولة) في حدود 10 سنوات، أو أزمة سياسية بسبب رفض المجتمع لدفع الضرائب. وتوجد اعتبارات مماثلة في دول أوروبا وشرق آسيا.
وفي الدول الخليجية، هذه مشكلةٌ مضاعفة، بسبب سعر الصرف الثابت، الذي يعتمد على وجود دينٍ عامٍّ منخفض، وعدم وجود عجزٍ كبير في الميزانية العامة.