تعددت الكتابات التي استهدفت دراسة تأثير الجغرافيا على سياسات الدول وخاصة من جانب مفكري الدول الغربية وكان مجملها هو أن الجغرافيا إما جسراً واصلاً أو حداً فاصلاً، وبالنظر إلى جغرافية وتاريخ المحيط الهندي نجد أنه كان منطلقا لنشأة حضارات عدة عبر التاريخ باستثناء الحضارة المصرية القديمة، تلك الحضارات التي شهدت تفاعلاً من خلال التجارة بسبب تنوع الموارد الاقتصادية لدول ذلك المحيط وموقعه الجغرافي المتميز فكانت النتيجة هي وجود هدف مشترك وهو التبادل التجاري وليس الصراع والصدام، ولا شك أن تأثير الجغرافيا والتاريخ مهمان للحديث عن أي أطر تعاونية بين مناطق التماس الاستراتيجي، ومن بين المناطق التي كان لها تواصل فعال مع المحيط الهندي منطقة الخليج العربي وهو ما يمثل أساساً مهماً للتعاون المستقبلي في المجالات كافة.
ولكن التساؤل الذي يطرح ذاته هل تكفي تلك الأسس للحديث عن تعاون يرتقي إلى مستوى شراكة استراتيجية وخاصة في مجال الأمن البحري؟ للإجابة عن ذلك التساؤل سوف أخصص مقالين متتاليين لتحليل رؤية دول الخليج العربي والهند على سبيل المثال للتعاون في مجال الأمن البحري انطلاقاً من دور الهند ذي التأثير في المحيط الهندي وبالنظر إلى وجود أسس بالفعل يمكن البناء عليها في مسار ذلك التعاون.
وبشكل موجز دول الخليج العربي وفقاً لكل المعايير التي حددتها الدراسات الأكاديمية المعنية بتصنيف الدول ما بين بحرية وحبيسة، تعد دولاً بحرية بما يعنيه ذلك من مزايا من حيث الإطلالة الاستراتيجية على بعض الممرات المائية التي تعتبر من الشرايين الرئيسية للتجارة الدولية، وتحديات تجلت غير ذي مرة خلال كل الحروب الإقليمية وحتى ولو لم تكن دول الخليج العربي طرفاً فيها، ومع أن الأمن البحري يكتسب أهميته ضمن الشراكات الأمنية لدول الخليج مع القوى الغربية الكبرى ولكنه في الوقت ذاته مكون مهم من أطر التعاون مع الهند، فعلى سبيل المثال استقبلت موانئ دول الخليج العربي 35 زيارة من السفن الهندية للموانئ الخليجية خلال الفترة من 2013 وحتى 2022 ، فضلاً عن توقيع مذكرات تفاهم واتفاقيات في مجال الأمن البحري بين الجانبين، بالإضافة إلى إجراء تمرينات مشتركة بين القوات الهندية والقوات البحرية الخليجية، ولتلك المؤشرات دلالات مهمة مؤداها إدراك متنام من الجانبين بأن ثمة ضرورة استراتيجية للتكامل بين أداء القوات في البحار وخاصة القدرة على العمل معاً ليس فقط في الأوقات الاعتيادية لمواجهة القرصنة وعمليات التهريب ولكن الأهم هو القدرة على إدارة الأزمات والكوارث لكونها تحدياً هائلاً لدول الخليج العربي، أخذاً في الاعتبار أن البحرية الهندية تمكنت من إجلاء حوالي 4آلاف من أبناء الهند مع اندلاع الحرب في اليمن عام 2015 وأيضاً 1200 من الجاليات الغربية والدول الأخرى في الوقت ذاته، من ناحية ثانية لا شك أن وجود أطر للتعاون الجماعي تتسم بالديمومة من شأنها أن تسهم في الحفاظ على مسار التعاون بل وتطويره، فبعض دول الخليج العربي والهند أعضاء في رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي التي تأسست عام 1997 وتضم في عضويتها 23 دولة و9 دول بصفة مراقب، وقد لوحظ أنه من بين 6 أهداف رئيسية لتلك الرابطة يحظى الأمن البحري بثلاثة منها بل وحرص الدول الأعضاء حرص الرابطة على إدراج قضايا مثل التنمية المستدامة والاقتصاد الأزرق ضمن أولوياتها وبرغم تواضع منجزات تلك الرابطة لأسباب عديدة ولكنها في نهاية المطاف تبقى إطاراً مهماً للتنسيق الإقليمي، كما أن بعض دول الخليج العربي أعضاء في المنتدى البحري للمحيط الهندي ويضم 25 دولة و9 دول بصفة مراقب. والمنتدى مبادرة تستهدف زيادة التعاون بين القوات البحرية وتبادل المعلومات في مجال الأمن البحري، وقد فازت المملكة العربية السعودية برئاسة ذلك المنتدى للفترة من 2027 إلى 2029 بإجماع الدول الأعضاء والمراقبين خلال اجتماع ذلك المنتدى في عام 2023 ، من ناحية ثالثة يعتبر ممر الهند – الشرق الأوسط– أوروبا إطاراً جديداً للتعاون بين دول الخليج العربي والهند في العديد من المجالات ومن بينها الأمن البحري في ظل زيادة وتيرة اعتماد دول الخليج على البحار ووجود خطط استراتيجية بعيدة المدى لتطوير الموانئ الخليجية، وبالرغم من التحديات التي تواجه ذلك المشروع فإنه يتضمن مزايا في مجال التعاون البحري وللطرفين مصلحة أكيدة في تعزيز تعاونهما في ذلك المجال.
ومع أهمية ما سبق فإن التساؤل الأهم كيف ينعكس ذلك التعاون في المحيط الهندي على منطقة الخليج العربي؟ لا شك أن وجود توافقات بين دول الخليج العربي والهند في الأطر الإقليمية الأكبر سوف تنعكس على الأمن البحري في الخليج العربي لعدة أسباب أولها: إن تلك القضية بتعقيداتها وتأثيرها في الأمن القومي للدول تحتاج إلى أطر عديدة للتعاون تضم أطرافاً لها مصالح جوهرية في المنطقة، فأمن الطاقة مسألة لا تهم دول الخليج فحسب بل الدول المستهلكة أيضاً ومنها الهند التي تعتمد على المملكة العربية السعودية في تأمين 18% من احتياجاتها النفطية على سبيل المثال، وثانيها: إن دول الخليج تنتهج سياسات مفادها التعاون عبر الأقاليم سواء من خلال الانضمام إلى عضوية بعض المنظمات مثل البريكس والتي تضم الهند من بين أعضائها أو تعزيز علاقاتها بشكل ثنائي مع تلك الدول وكلا المسارين يتكاملان ضمن استراتيجية دول الخليج لتنويع الشراكات الدولية، وثالثها: إن الأمن البحري أصبح ملتقى للرؤى الاستراتيجية للدول، ففي الوقت الذي وضعت فيه الهند رؤية للأمن البحري كان من بينها أهمية تأمين الملاحة البحرية في مضيقي باب المندب وهرمز فهما مضيقان حيويان لدول الخليج العربي في الوقت ذاته.
وبالرغم مما سبق ربما تكون هناك تباينات بين دول الخليج والهند بشأن بعض القضايا منها مفهوم توازن القوى في منطقة المحيط الهندي والخليج العربي وسعي الطرفين إلى تحقيق ذلك التوازن، ورؤية الطرفين للأطراف الخارجية في المنطقتين وكيف تنعكس تلك الرؤية على ترتيبات الأمن الإقليمي سواء المؤقتة أو الدائمة، ولكن في النهاية تبقى هناك تهديدات مشتركة تحتاج إلى التعاون بشكل مستمر وهي القرصنة والإرهاب البحري، بالإضافة إلى تحدي الكوارث الطبيعية انطلاقاً من حقيقة مفادها أن المحيط الهندي يشهد أكثر من 70% من الكوارث الطبيعية العالمية وتطال العديد من دوله.
وإذا كان الأمن البحري ترجمة للتاريخ بامتداده والجغرافيا بمعطياتها والحاضر بضروراته والمستقبل بمتطلباته، وهو ما انعكس على الجهود الخليجية للتعاون مع الهند في مجال الأمن البحري، فما منطلقات الهند لذلك التعاون؟ تساؤل له وجاهته حتى تكتمل رؤية التعاون بين الجانبين في مجال يعكس مفهوم الجسر الواصل وليس الحد الفاصل.
المصدر: أخبار الخليج
الدكتور أشرف كشك، باحث أول