إذا كان من المفيد رصد الأحداث الإقليمية التي تتضمن قضايا ثابتة وأخرى مستجدة، فإن الأبعاد الأمنية لتلك الأحداث تكتسب أهميتها، وخاصة أنه لا توجد حتى الآن حلول جذرية لها، كما أن القائمة تطول بشأن تلك الأحداث إلا أنه من وجهة نظري هناك تطوران كانا هما محور الأمن الإقليمي منذ بداية هذا العام أولهما: الحرب في غزة التي بدأت في السابع من أكتوبر 2024، وثانيهما: هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، بالطبع كانت هناك أزمات إقليمية أخرى مستمرة منها الأوضاع في ليبيا والسودان ولبنان، ولكن هذين الحدثين كانا الأكثر تأثيراً على منظومة الأمن الإقليمي لخمسة أسباب الأول: إعادة التأكيد أن هناك جذورا للتوترات الإقليمية وعوارض لها، فعدم إيجاد حل للقضية الفلسطينية حتى الآن وفقاً للقرارات الأممية التي أكدت حل الدولتين يعد سبباً رئيسياً للتوترات الإقليمية سواء من جانب الدول أو الجماعات دون الدول، ولذلك لم تأل دول المنطقة جهداً في حشد الدعم الإقليمي والعالمي لحل تلك القضية وكان أبرزها مخرجات القمة العربية الثالثة والثلاثين التي استضافتها مملكة البحرين في مايو 2024 وما تلاها من جهود بحرينية رفيعة المستوى نحو تنفيذ قرارات تلك القمة، والثاني: أنه على الرغم من جهود دول المنطقة لمواجهة الجماعات دون الدول -التي تختلف تصنيفات الدول لها- فإن تلك الجماعات لا تزال هي التحدي الأساسي للدولة الوطنية الموحدة وهو أمر سوف يطيل من أمد الصراعات في دول الجوار الإقليمي، والثالث: تأثير التكنولوجيا سواء على العقيدة العسكرية للدول من حيث إنهاء ميزة القدرة على شراء أسلحة تقليدية متنوعة أو على آليات عمل القوات المسلحة للدول التي اعتادت على الحروب التقليدية، وبالتالي فإن التحدي الأكبر لجيوش المنطقة هو كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي في عمل الجيوش وما يستلزمه ذلك من توطين الصناعات بمتطلباتها البشرية والتكنولوجية، والرابع: كيفية حماية الممرات المائية الدولية التي أضحت ورقة يتم توظيفها في الصراعات الإقليمية، صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تواجه تلك الممرات تهديدات سواء من جانب الدول أو الجماعات دون الدول، ولكن اتساع نطاق التهديدات لتلك الممرات على نحو غير مسبوق وتضرر العديد من الدول الإقليمية بدرجة بالغة يثير التساؤلات حول سبل مواجهة تلك التهديدات من خلال رؤية استراتيجية وليس عبر استجابات وقتية، والخامس: زيادة وتيرة التنافس الدولي تجاه المنطقة ومن ثم التدخلات الخارجية في بعض الأزمات الإقليمية وهو لا يعكس بالضرورة توافقات وإنما يضفي على الأزمات الإقليمية المزيد من التعقيد.
وإذا كانت تلك هي التهديدات المستمرة منذ بداية العام فلاشك أن المستجدات في سوريا كانت هي الحلقة الجديدة من التطورات الإقليمية مع الإطاحة بالنظام السوري في الثامن من ديسمبر 2024، وبغض النظر عن تطورات ذلك الملف المتشابك الأبعاد، فإنه سيكون له تأثير على منظومة الأمن الإقليمي من حيث قدرات اللاعبين الإقليميين وقضايا الصراع ذاتها ويرتبط ذلك بعاملين أساسيين الأول: كيفية انتهاء المواجهات في غزة واليمن، والثاني: رؤية الرئيس دونالد ترامب لمهددات الأمن الإقليمي ذاتها التي ربما تتضح ملامحها إما في خطاب حالة الاتحاد الذي اعتاد الرئيس الأمريكي أن يلقيه أمام جلسة مشتركة للكونجرس الأمريكي يوضح فيه الأولويات الوطنية وسبل تنفيذها أو من خلال استراتيجية جديدة للأمن القومي الأمريكي تتفاوت مدة إصدارها وفقاً لرؤية كل رئيس جديد في الإدارة الأمريكية.
وبعيداً عن هذا وذاك، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أنه مع التطورات الجديدة في سوريا، فإن دول الخليج العربية قد أضحت ضمن دائرة محتدمة من الصراعات المزمنة التي تفرض تحديات منها كيفية تكامل الجهود الخليجية مع الدولية لنزع فتيل تلك الصراعات بما لها من تأثيرات على أمن دول الخليج العربي، ومن تلك الجهود احتمالات أدوار لإعادة الإعمار وكذلك استمرار الاضطلاع بأدوار الوساطة وتسهيل التفاوض بين أطراف الصراع في المحيط الإقليمي وصولاً إلى توظيف شراكاتها الدولية لحث الأطراف الدولية على ممارسة أدوارها لحل تلك الصراعات بدلاً من إدارتها والتي سوف تترك تأثيرات على منظومة الأمن الإقليمي تمتد سنوات مقبلة وتهدد المصالح الإقليمية والدولية على حد سواء.
وفي تقديري أن التعامل الخليجي مع تلك الصراعات خلال العام 2024 قد عكس الدور الذي يمكن أن تضطلع به دول الخليج العربي سواء فرادى أو من خلال منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ابتداءً بإعلان مجلس التعاون رؤيته للأمن الإقليمي في مارس من نفس العام، والتي تضمنت قائمة من القضايا والتحديات التي يرى المجلس أنها يجب أن تكون محور اهتمامه كمنظمة خلال السنوات القادمة ومروراً بجهود الوساطة ضمن محاولة تقريب وجهات النظر وتفعيل القنوات الدبلوماسية لحل الصراعات ووصولاً إلى التحرك عبر المحافل الإقليمية والدولية لإيضاح مخاطر بقاء تلك الصراعات دون حلول من خلال توظيف شراكاتها المتعددة في هذا الشأن.
ولا يعني ما سبق أن الصورة الإقليمية أضحت قاتمة، ولكن تعدد الصراعات وتشابكها يعكس تحديات هائلة لا ترتبط بالضرورة بالعامل الجغرافي، فالتكنولوجيا الحديثة أنهت مفاهيم السيادة التقليدية سواء أمنياً أو حتى على صعيد حروب المعلومات والترويج لحملات ممنهجة من الأفكار التي تستهدف الأمن المجتمعي.
وإذا كان المدخل نحو تحقيق الاستقرار الإقليمي يتمثل في إعادة بناء الدولة الوطنية وبرغم صعوبة ذلك الهدف في ظل زيادة هوة الشقاق في أزمات دول الجوار، فإن ثمة جهودا إقليمية مطلوبة بدعم دولي سواء من خلال المؤتمرات أو المبادرات التي يمكن أن تضطلع بها القوى الإقليمية سواء بشكل فردي أو من خلال تنظيمات الأمن الإقليمي (جامعة الدول العربية، مجلس التعاون لدول الخليج العربية)، فضلاً عن الأدوار الدولية ذي التأثير على أطراف تلك الصراعات بما يستهدف تحقيق الإجماع الوطني بعيداً عن حالة التشرذم التي كانت نتيجتها حروب مستمرة استنزفت ثروات تلك الدول وقدراتها الاقتصادية عموماً.
إن التوصيف الصحيح للأمن الإقليمي في حصاد عام 2024 أنه بات على مفترق طرق إما إيجاد حلول لتلك الأزمات التي تتنازعها دوائر ثلاث وهي المحلية بين أطراف الصراعات أنفسهم، وإقليمية تلتقي أو تتقاطع بشأن تلك الأزمات وأخرى دولية لها مصالح أو نفوذ تسعى للحفاظ عليه في مناطق الصراعات، ولا سبيل لحلول ناجعة من دون التقاء الرؤى الثلاث أو على الأقل توافقها.
ولا يعني ما سبق أننا أمام حلول فورية، ولكن إما استمرار حالة التأجيج وإما خروج الصراعات عن نطاق السيطرة نحو سيناريوهات بالغة الخطورة لأطرافها ولمنظومة الأمن الإقليمي جميعها.
المصدر: أخبار الخليج
الدكتور أشرف كشك، باحث أول