تراجعت أسعار النفط، من مستوى أكثر من 100 دولار للبرميل في منتصف 2014 إلى ما يقل عن 30 دولاراً للبرميل، في بداية 2016، ما أدى إلى ضغط كبير على الموازنات الحكومية لدول مجلس التعاون الخليجي. وتتطلب معالجة العجز في الموازنة تقليل النفقات من جهة، وتعزيز الإيرادات من جهة أخرى. ولذلك نظر أصحاب القرار في هذا الشأن، خلال السنة الماضية، وبدأوا بتقليل الدعم على النفط، ورسموا خططاً لفرض ضرائب مختلفة لأول مرة أبرزها ضريبة القيمة المضافة.
كان تطبيق هذه السياسات مطلوباً حتى لو كانت بقيت أسعار النفط مرتفعة، وذلك نتيجة للتطورات الديموغرافية التي شكلت ضغطاً متصاعداً على الموازنات العامة، ودفعت مؤسسات عالمية، كصندوق النقد الدولي، إلى توصية الدول الخليجية بإصلاح أنظمة الدعم، وبتنويع الإيرادات العامة، وذلك قبل مدة طويلة. أما ما حصل أخيراً فهو مجرد تسريع لتغييرات جذرية في الاقتصادات الخليجية، كان مخططاً لها من وزارات المال في الدول الست.
وعلى رغم أن المواطن الخليجي العادي يفضل عدم إجراء مثل هذه التغييرات، لأنها تقلل من قدرته الشرائية، إلا أن هذه الرغبة لديه أصبحت غير واقعية، ما يثير تساؤلاً جديراً بالتقدير: ما هو الخيار الأفضل للحل، تقليل الدعم أم فرض ضرائب؟
هناك مجال فرعي في علم الاقتصاد مخصص للإجابة عن هذا السؤال، ولتحليل كل ما يتعلق بالضرائب والدعم، يسمى «الضريبة الأمثل». ولأسباب فنية للغاية، تمكن الاقتصاديون من الاستنتاج بأن ضريبة القيمة المضافة أفضل من ضريبة الدخل الشخصي في شكل عام، ومن ضرائب المبيعات، ومن ضرائب أخرى. وأدت هذه الابتكارات الفكرية وغيرها إلى نيل الفارس جيمس ميرليز (المملكة المتحدة) وبيتر دايموند (الولايات المتحدة) جائزة نوبل في الاقتصاد، وأصبحت هذه النظريات أساساً للقرارات الضريبية التي يتخذها أصحاب القرار في كل أنحاء العالم.
لكن في الدول الخليجية، برز أخيراً أمر مهم جديد -يبنغي أخذه في الاعتبار عند رسم منظومة الدعم والضرائب المثلى- وهو الترتيبات الدولية في مؤشرات الحرية الاقتصادية، ففي عصر العولمة، أصبح الرأسماليون يبحثون عن فرص استثمار خارج العالم الغربي، نتيجة لاستنفاد معظم الفرص الاقتصادية في الدول المتقدمة. لكن المستثمر الغربي ما زال يعاني من عجز معلوماتي حول الفرص المتاحة في الدول غير الغربية، ومنها الدول الخليجية والأفريقية ودول أميركا الجنوبية.
ولملء هذه الفجوة، نشأت مؤسسات تجارية مكرسة لمتابعة الاقتصادات غير التقليدية، تصوغ تقارير مفصلة حول إيجابيات وسلبيات الدول التي تسعى إلى استقطاب رأس المال الدولي، وتقدم توصيات مبنية على تحليلات رصينة، مثل وكالة «موديز».
ومن خلال التنافس الطبيعي بين هذه الشركات الاستشارية، برزت فئة تركز على معايير «الحرية الاقتصادية». ففي ظل انهيار الاتحاد السوفياتي آخر القرن العشرين، اقتنع أصحاب القرار في العالم أن التحرير الاقتصادي سياسة فاعلة، تقدم مزايا متعددة للمستثمر المحلي والخارجي، منها حماية حقوق الملكية، التي تشكل ركن الاقتصاد المتين الحديث. مثلاً، تصدر «مؤسسة هيريتج» في واشنطن تقريراً سنوياً، يصنف دول العالم حسب الحرية الاقتصادية، في مساعدة للمستثمرين الدوليين، ومن ثم كوسيلة لتشجيع الحكومات على تبني سياسات التحرير الاقتصادي.
وتحتل دائماً دول مجلس التعاون المراكز الأعلى في تلك المؤشرات، لأسباب مختلفة. أولاً: البلدان الخليجية تؤمن منذ تأسيسها بأهمية حقوق الملكية فلسفياً، وانعكس ذلك في تصرفات أصحاب القرار، الذين لم يقوموا بعملية التجريد من الملكية، حتى في فترة ما قبل اكتشاف النفط. ويميزها ذلك عن دول نامية أخرى، منها جمهوريات في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، وكان لذلك دور مهم في تفادي الدول الخليجية لبعض التداعيات السلبية المتعلقة بـ «الربيع العربي».
ثانياً: بنت الحكومات الخليجية موازناتها على الإيرادات النفطية، عن طريق تأميم شركات النفط الوطنية، ما سمح لها بعدم فرض ضرائب تقليدية، وبتقديم دعم ملحوظ في مختلف السلع. ونتيجة لابتكارات رائدة في الحوكمة، تمكنت إمارة دبي من القيام بذلك، حتى على رغم غياب إيرادات نفطية ملحوظة، ولذا، أصبحت الدول الخليجية جاذبة لرأس المال الدولي، ما ساهم في تأمين فرص عمل عديدة للخليجيين وغير الخليجيين.
وفي ظل تراجع أسعار النفط، قد تواجه الدول الخليجية صعوبة في الاستمرار في احتلال المراكز الأعلى في مؤشرات الحرية الاقتصادية، خصوصاً إن فرضت ضرائب كثيرة. لكن هناك مخرج مؤقت، وهو إصلاح الدعم، فوجود الإعانات لا يعزز مرتبة الدول الخليجية في تلك المؤشرات، بل إنه عامل مضر، لأن التحرير الاقتصادي الحقيقي يقوم على عدم التدخل الحكومي في الاقتصاد إلى أكثر حد ممكن، والدعم يعتبر تشويهاً في أسعار السوق الطبيعية. إذاً، لأجل الحفاظ على سمعة الدول الخليجية في الحرية الاقتصادية، وعلى تصنيفاتها الإيجابية في المؤشرات المعنية، التي تتسبب في استقطاب رأس المال الدولي إلى دول مجلس التعاون، وإيجاد فرص عمل، قد يفضل أصحاب القرار تقليل الدعم على فرض ضرائب، كوسائل لمعالجة العجز في الموازنة العامة.
ولا تشكل هذه العوامل الاعتبارات الوحيدة للقرار النهائي، فهناك أسباب أخرى لتقليل الدعم، كبديل من فرض الضرائب، منها: الانعكاسات البيئية السلبية لدعم الوقود والطاقة، فضلاً عن تحول الدعم، من وسيلة فاعلة لمساعدة ذوي الدخل المحدود -في وقت إطلاقه- إلى وسيلة لمساعدة الأثرياء، على حساب غير الأثرياء، أخيراً! وعلى أي حال، يتطلع المجتمع الخليجي إلى يوم لا يحتاج فيه إلى دعم، ولا تحتاج فيه الحكومة إلى فرض ضرائب.